مهدت واشنطن وطرابلس لاستئناف العلاقة الدبلوماسية الطبيعية بينهما، باتفاق يصفي مختلف الحسابات الدموية ويحسم كل المآخذ والشكاوي والمطالبات التي علقت في القضاء بسبب قطيعة بين البلدين بدأت عملياً عام 1972 وأصبحت ناجزة وكاملة قبل أعوام من الهجوم الجوي الأمريكي علي ثكنة العزيزية في وسط العاصمة الليبية.
وفيما لم تكن المسؤولية الأمريكية عن ذلك الهجوم بحاجة الي إثبات، فإن المسؤولية الليبية عن تفجير طائرة بان أم فوق لوكيربي في اسكوتلندا عام 1988 وعن تفجير ملهي لابيل في برلين عام 1986 احتاجت الي عقدين كي يُعترف بها مشروطة بعدم الملاحقة لقاء التعويضات المالية التي تعهدتها طرابلس.
وكان لافتاً ربط هذه التسوية بقبول واشنطن أيضاً تعويض ضحايا الاعتداء الجوي في أبريل ،1986 وهي نادراً ما توافق علي شرط مماثل. فذاك الاعتداء أمر به الرئيس رونالد ريغان كرد علي تفجير الملهي البرليني ومقتل أمريكيين فيه.
المعلوم عن صفقة التطبيع هذه يضع كلفتها في حدود عشرين بليون دولار، وقد تتجاوز هذا الرقم كونها تشمل ايضاً تفجير طائرة شركة وتا فوق صحراء النيجر عام ،1989 علماً بأن ليبيا أنكرت كل مسؤولية عنه، كما تشمل بضع عشرات من ضحايا بضع بضع عشرات من الاعتداءات الأخري. ولم يتسرب شيء عن التعويض الأمريكي لضحايا غارة العزيزية، لكن نجل الرئيس الليبي سيف الإسلام القذافي لمح تلميحاً الي مئات ملايين الدولارات.
بالنسبة الي القيادة الليبية، ليس كثيرا أن يفتدي النظام بحفنة ولو مهمة من البلايين. إذ تقول روايتها للأحداث أن رأس النظام كان مطلوباً وجعل هدفاً ل مؤامرة دولية أرادت إسقاطه، لكنه عرف كيف يدير الأزمة، فأنفق أيضاً حفنة بلايين في معركة قضائية وقانونية، فيما كان البلد محاصراً جوياً ولا يستطيع أهله استخدام المطارات والطائرات للتنقل.
وعندما ارتسم الحل، بانتصار البراغماتية بداعي الحاجة الي المال لدفع التعويضات الي أهالي الضحايا، كان لا بد من ممر قضائي صوري وشكلي، فابتدعت المحكمة الاسكوتلندية في لاهاي الهولندية، وحمل عبدالباسط المقراحي كل الأوزار، راضياً أو مضطراً، مذنباً ومجبراً لا بطلاً.
وفي السياق أقنع الرئيس الليبي، جزئياً أولاً، بضرورة القيام بلفتة بارزة لإبعاد الشبهات عنه، أو حتي عن محيطه القريب في دائرة الحكم. وإذ تردد فإن سقوط صدام حسين ما لبث أن أنجز إقناعه، فبادر في ديسمبر 2003 الي تفكيك المشروع النووي الليبي وسلمه الي الأمريكيين الذين شحنوا كل المعدات الخطيرة الي الولايات المتحدة، حيث عرضت كما لو أنها غنائم حرب أو مضبوطات محظورة وجدت في أحد أوكار فئة ضالة.
ولم يصدق خبراء وصحفيون عيونهم عندما ذهبوا بدعوة ملحة لمعاينة البضاعة المستوردة من البر الليبي. إذ وجدوا أنفسهم أمام كم من الخردة ليس فقط أنه لا يصلح لصنع مفاعل نووي وإنما لا يصلح لأي شيء علي الإطلاق. ومع ذلك فعلت الآلة الإعلامية فعلها، وأمكن لجورج دبليو بوش أن يتفاخر ب ضربة معلم أنجزها، بل راح يتحدث عن النموذج الليبي .
والواقع أن الأمريكيين لم يُفاجأوا بما وجدوه، إذ كانوا يعلمون بأن ما هم في صدده ليس مشروعاً نووياً كاملاً، وإنما يمكن اعتباره مشروعاً في حالة جنينية في أفضل الأحوال. لكنهم استخدموا ما لديهم من معلومات ثمينة للابتزاز، وقد نجحوا.
تعطي اللائحة النوعية ل الأفعال التي جرت تصفيتها بموجب الصفقة فكرة عما كان الطرفان في صدده: فعل تعذيب، أو قتل خارج نطاق القضاء، أو تخريب طائرات، أو أخذ رهائن، أو احتجاز، أو فعل إرهابي آخر، أو توفير دعم مادي، أو موارد لمثل هذا الفعل .. ولذلك يستحق يوم التوقيع علي الصفقة أن يسمي يوم الغفران الكبير وقد خلّده الرئيس دبليو برسالة الي نظيره الليبي يبعث إليه فيها ب أحر تحياته معرباً عن ارتياحه للمستوي الذي وصلت إليه العلاقات الثنائية، واعداً بمزيد من التعاون بين البلدين ومثمناً جهود الرئيس الليبي من أجل استقرار العالم .
عندما كان مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية ديفيد ولش يتحدث عن الإصلاحات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وذلك خلال زياراته السابقة لاستكمال البحث في الصفقة، لم يكن أحد يعلم أنه يتحدث عن أموال.
إذ ساد الظن منذ سنتين ونيف، علي الأقل، بأن مسألة التعويضات حسمت وانتهي أمرها. وتبين أخيراً أن شروط نسيان الإصلاحات وحقوق الإنسان كانت تتمحور علي الأسعار. وفي الآونة الأخيرة لم يعد لدي ولش أي اعتبار سياسي أو أخلاقي في تصريحاته، ما عني أن الصفقة اقتربت.
هنيئاً للبلدين هذا التطبيع الباهظ، فهو كان مكلفاً في الذهاب كما في الإياب كما في الإقامة، طوال الرحلة التي تمددت واقعياً علي أربعة عقود، وها قد جري تجديدها. وإذا كان ضحايا الخارج استحقوا هذه الصفقة، فمن يتحدث عن ضحايا الداخل الذين لم يكلفوا حتي الآن سوي القليل القليل قياساً الي تلك البلايين التي رميت ثمناً لنزوات سياسية وأمنية. هذه ليست أموالاً تسحب من أفواه الليبيين فحسب، إنها عمر كامل انتزع من حياتهم وليس لديهم ما يراهنون به علي شيء من الأمل في عمر آخر يفترض أن يبدأ مع عودة الأمريكيين الي طرابلس.
النتيجة المؤكدة لمثل هذا التطبيع أن الدولة العظمي الوحيدة في العالم لن تكون قادرة علي إعطاء الجماهيرية العظمي دروساً في دولة القانون .